في أغلب الأحيان، تكون الكتابة حاجة، درب من دروب العلاج، مسكّن للآلام أو صديق يحملك بعيدًا عن الكبت المستمر والاحتفاظ بالألم داخلًا. وفي مواقع مختلفة، تكون الكتابة كأس إضافيّة من السعادة، فتكتب سعيدًا ناشرًا للسعادة، نبيّ أو رسول، أو تاجر للمخدّرات. أو في أدقّ وصف: صاحب حانة، لا تمنحهم إلّا ما يملكون في أحشائهم، إذ تقول الرواية إن الكحول يُخرج ما بداخلك فقط، لا يمنحك إلّا بعض الشجاعة لتقول وتفعل ما تفكّر به. ولكن، ما علاقة هذا كلّه بما سيُكتب هنا ؟ لا علاقة. ومن يبحث عن العلاقة بين الجمل، ليخرج سريعًا من هنا، فهذه المدوّنة ليست إلّا مساحة.

الأحد، 19 يونيو 2016

رام الله: نموذج الـ"ولا إشي"

 هذه المدينة أكبر من أن يتم اختزالها بشتيمة بعد سهرة ببار حلو، مع انه فش فيها ولا بار يستحقّ أن يطلق عليه اسم بار، إلّا أنّها كبيرة، وكثيفة. وفي هذه المدينة تحديدًا، تتنافس التناقضات. من "رأيت رام الله" لـ"رام الله مدينة السراب الفلسطيني".

وكمان روايتين ثلاثة بالإضافة لعشرات الدراسات، بتحاول تحليل هالمدينة، العمارة، السوسيولوجيا، الطبقيّة، السياسية، الماديّة، النوعيّة وكمان مليون منهج تحليل لتحليل هالمدينة، كلها فشلت لسبب واحد وحيد وبسيط، انها عقّدت المدينة الي هي بالواقع: "ولا إشي". هاي المدينة عبارة عن ولا إشي، فش إشي فيها، ولا إشي، فراغ لا يمكن تحليله، وفوضى هبلة. إسّا، هاي الفوضى نفسها، فيها كمان إشي خاص، إنها فوضى هبلة، فوضى فارغة، هيك فيهاش اشي.

وبهاي المناسبة السعيدة، رح ابدأ من عند "سهرة الخميس":


في إشي برام الله، اسمه يوم الخميس. ويوم الخميس أكبر من مجرّد يوم بالأسبوع، يعني زي ما في مثلًا الدورة الشهريّة بتيجي مرّة كل شهر، أو رمضان بيجي مرّة بالسنة مش شهر عادي، الخميس برام الله مش يوم عادي. ويوم الخميس، إله وزنه ومكانته وكيانه المستقل الحرّ، أصلًا: يوم الخميس فكرة، ومش يوم. والفكرة طبعًا: لا تموت. المهم، وعلى الرغم من إنّك ممكن تسهر وتسكر أحد واثنين وثلاثاء وأربعاء، لازم تطلع تسهر يوم الخميس، هاي إلزاميّة. إسّا شو بيصير بيوم الخميس ؟ الي أنا شخصيًا حاسه اشي حلو، الوحيد الي عليه إجماع أصلًا بهاي البلد، "سهرة الخميس" هي الحالة الوحيدة في هذه المدينة التي لا يجرؤ أحدهم مناقشتها، ومين أنا تأناقشها ؟ ما أنا كمان سعيد فيها وإن شاء الله إذا سنحت لي الفرصة سأفتح يومًا جديدًا ينافس يوم الخميس منعًا للاحتكار ولتطبيق ما يسمّى "العدالة الأسبوعية".

إسّا يوم الخميس برام الله مثلًا، يختلف عن يوم الخميس بحيفا: بحيفا مثلًا القميص مش شرط، برام الله شرط. بحيفا مثلًا الكندرة مش شرط، برام الله إلزاميّة. بحيفا مثلًا بتطلع بتاكسي عشان بتقدرش تسوق سكران، برام الله بتطلع بتاكسي عشان خايف من "النمرة الصفراء" وهي سكرانة وتتلولح. بحيفا مثلًا يوم الخميس هو يوم بتطلع تسهر وبتفكّر انه بكرا بدّك تنام كثير، برام الله كل يوم خميس هو زي يوم "عرس أخوك". بحيفا مثلًا فش حراسة عالباب، برام الله وين فش حراسة بتيجيكاش الشجاعة تفوت، لي ؟ عشان برام الله، في سكرجية بسكروا بالسيارات، عندهن مشكلة مبدئية مع البار.  هظول مثلًا، الكحول حلال للشباب لحالهن، أو للصبايا لحالهن. يعني اسكر، بس لا للاختلاط. أمّا صراحة، بحيفا يوم الخميس يوم راحة من السهر، مش يوم سهر، منا سهران من الأحد للأربعاء، يوم الخميس بيجو أهل القرى يسهروا بحيفا، والي كنّا سكّان حيفا، نرتاح. يعني، كل الي ساكنين برام الله بيوم الخميس، بعتبروها حيفا، وبيجو من رام الله، ع رام الله، عشان يسهروا. طيب، هاي مش عبارة عن ولا إشي ؟ مبلا، ولا إشي، شو بيطلع من يوم الخميس ؟ شو هو يوم الخميس ؟ ولا إشي. بس حلو.



وننتقل وبعد الصلاة، إلى رمضان في رام الله:


رمضان برام الله، بالضبط زي رام الله، مبيّن معقّد وكأنه المدينة كلها بتتغيّر بس ييجي رمضان، بس فعليًا، بصيرش اشي. ولا  أي إشي، كل المحلات فاتحة عادي، بس فاتحة الباب الرئيسي نص فتحة، كل البارات فاتحة عادي، المكان المحظوظ هو الي عنده برادي، بسكّرهن. كلّه بدخّن بالغرف المغلقة، كلّه بوكل كل النهار، وفعليًا، ولا إشي بيتغيّر غير شكليات، بالضبط زي المدينة نفسها، هي عبارة عن ولا إشي، بس بتبيّن إشي. وهذا للأمانة اشي رهيب، حلو. فيك تقول مثلًا، رام الله جوهريًا نفسها تكون حيفا، بس شكلًا مصمّمة تكون الخليل.


بيجي مثلًا بيقلّك "هادا الفانوس يمثّل الحالة السياسيّة والمشروع الوطني المنهار، بشاعته من بشاعة الحالة". طيّب، كل خرا، بتعرفش تقول "هادا الفانوس بشع وخلص" ؟ فانوس بشع، ليش لازم يكونله سياق ؟

مانديلا رام الله الأصفر:


قبل شي أسبوع، طلعت مع أنغش شوفير تكسي بالكوكب، وإليكم هذه المحادثة اللطيفة:
- يعطيك العافية
- أني عافية ؟ أنا لو إني رئيس، بقول لكل مواطن: خذ هاي 1000 دولار وبس خلّيك صوم تشتغلش، صوم وصلّي وتشتغلش ولا يوم، وباجي قبل العيد بقله خذلك كمان 1000 دولار عيّد انت والأولاد.
- عشان هيك مش رح تصير رئيس كل حياتك
- قال بيقلّك كل الغزوات كانت برمضان، كانوا يغزو يوم بالشهر، مش كل يوم، أنا صفّيت بغزي الصبح والظهر وبعد الإفطار وقبل الإفطار بعملّي غزوة صغيرة عشان أفطر
- قدّيه صارلك بتشتغل عالتاكسي ؟
- بتعرف تمثال مانديلا ؟
- ماله ؟
- هادا مؤقت
- لي ؟
- حطّوه عبين ما أموت عشان يعلقوني محلّه أنا والستيرينغ والغير والضو الأصفر، أنا بالنسبة للشوفاريّة الشباب زي مانديلا، فيك تحكي بطل، أيقونة التاكسي، أنا هو الشوفير.
- قدّيه صارلك بتشتغل لي عالتاكسي ؟
- هو أنا كل ما بنسى بدّك تذكّرني ؟ مصمّم تعرف ؟ مش قايلّك، من وين انت
- منطقة حيفا
- وانا بقول، هاي أسئلة واحد غشيم. اسمع، ولّع سيغارة عادي، فش حدا بصوم كلّه بكذب.
- لا، عشانك، عمّي.
- عشاني ؟ هههه منا بقلّك ولّع عشان تعزم.
- هلا عمّي.
- يعطيك العافية.

بس للأمانة، البلد حلوة، والناس حلوة، في جماليّة بهاي الحياة الي فش فيها إشي، هي كأنها رام الله إنسان، منفصم على فراغ. يعني بدّك تقلّي انه شوفير التاكسي الي بحيفا عنده قيمة لإشي ؟ كمان لأ، بس أغرب اشي بهاي البلد، انه كلّه بدوّر عمعنى للحياة. طب شو بيصير اذا كان يوم الخميس بدون معنى ؟ يعني عادي يضل زي ما هو ؟ حتّى أغلب من بحث رام الله، بحثها باحثًا عن شيئ، بس بالحقيقة هي ولا إشي، إحنا الفلسطينية وينتا بدنا نوقّف نبحث بالمدينة ؟ كل ما باحث يفلّس بقلّك "بدّي اكتب بحث عن رام الله"، شو رام الله ؟ عادي فش فيها إشي. حتّى هادا الموكب الي مارق من تحت الشبّاك فاضي، مستعد أحلف انه فش فيه إشي، غير بدلة عفراغ.

إنّه ليش كل هالقد صعب نقول: هاي البلد عبارة عن ولا إشي ؟ 




الاثنين، 6 يونيو 2016

قصّة شخصيّة: فانوس وموت ورحيل

مرّات، بتمرّ عليك سنوات رهيبة، وبصدق المنجّمون في توقّعاتهم، زي هاي السنة بالضبط لمّا قالولي بكل ثقة: "إنت نجمك رح يلمع السنة، هاي السنة رح تكون ممتازة"، وشو ممتازة طلعت ؟ رهيبة! وفي جزء ثاني بالعالم، بعد ما يعرف كيف مرّ النص الأول من السنة، بقلّك: "النص الثاني رح يكون المنيح". صراحة ؟ منطقيًا، الي صار بأول نص هالسنة المميزة، بدّك تقعد تزبّط فيه لشي 45 نص سنة لقدّام. ع فكرة، استنيت كثير، وأجا الوقت أكتب، أحسن ما أنجن، بيقولوا: الكتابة علاج، ومرّات بيقولوا: الكتابة سلاح. وفي كلا الحالتين، لازم أكتب. ومش دايمًا، بتكتُب حبًا في الكتابة، ممكن تكتب عشان أكل العيش، وساعتها بتكون الكتابة مهنة. ومرّات بتكتب عشان نشوة الكتابة، وساعتها بتكون الكتابة رقص. ومرّات بتكتب عشان الأمل، وساعتها بتكون الكتابة روح. ومرّات بتكتب عشان تحارب، ساعتها بتكون الكتابة سلاح. ومرّات بتكتب عشان تعالج حالك، وساعتها بتكون الكتابة دواء. أنا اليوم، رح اكتب عشان الكتابة علاج.

اليوم، كانت بداية شهر رمضان، والكذب مهما يكون، يتناقض مع العلاج. وبالتالي، فإن هذه التدوينة ستكون خالية منه تمامًا. منذ الأمس، وأنا لا أزال أرى صورًا لفانوس رمضان الي تم نصبه على دوّار مركزي ببلدي عبلين، مع مئات الصور الي شفتها وأهل البلد متجمعين حواليه، يرافق كل صورة تعليق، تعبير عن الشهر الفضيل والحياة، أمّا أنا، فلا تزال تدمع عيني مع كل صورة، حيث هذا الدوّار، القريب من دار سيدي، الي بحد دكّانة أبو بسّام، وبين دار سيدي ودار صديق طفولتي، اليوم، وبهذا الشهر الفضيل، ممنوع أوصله ولا أشوفه. أنا ما بصوم، وكنت كل شهر رمضان أعمل حواليّ 30 طوشة مع إمي عشان أروّح عالبلد، وما كنت أروّح، بس اليوم، هاي البلد، وصولها أهم من أي بلد ثاني: للمرة الأولى بحياتي بفهم شو يعني لاجئ.



قبل 40 يوم من اليوم، انقتل ابن عمّي، وانقتل كمان شاب من عائلة أخرى، لهم الرحمة ولذويهم الصبر. كتبت عن هذا الموضوع، وتمنّيت الرحمة باسمي واسم عائلتي لكلا الفقيدين، وعزّيت كلا العائلتين، ومدّيت إيدي حامل وراها إيدين العائلة الكاملة للصلح. وشو بيصير بعدها، ولا أي شي، سجناء، عائلات لم يبقى فيها أحد سوى رجل في سنوات الستّين من عمره وزوجته التي يعمل قلبها بمنظّم لدقّات القلب، زوجة أخاه، و 3 نساء وأطفالهم يتنقّلون بين البلدات مرحّلين مهجّرين في الشهر الفضيل، أمّا عن هويّة هذه العائلة فها هي: عمّي وزوجته، أمي، أختي وزوجات أبناء عمّي. آه، هاي الحقيقة. وشو المطلوب منّي ؟ أندم عمد إيد الصلح ؟ ولّا أندم على إنّه عمّي أخذ قرار يطلع من البلد ثالث يوم العزاء كبادرة حسن نيّة اختصارًا للشرّ وشتمًا للشيطان ؟ أولهذا لا يزال يتنقّل بين البلدان من بيت لآخر ونساء العائلة ؟ ولا تزال "أوادم" البلد ترفض عودته ؟

طيّب ؟ فانوس رمضان ما بذكّر انه في ناس دمّعت عالموت والتهجير ؟ أنا قلت بأوّل المدوّنة، انها خاليّة من الكذب. وعشان هيك، رح أكون صريح لأبعد الحدود: هذا الي مد إيده للصلح خلال أول يوم، وشتم السلاح والعنف وراح ما يتبرأ من ولاده، عم تتم إعادته لدائرة العنف من أول وجديد. عم تتم عمليّة إعادة تدوير العنف منذ البداية، عم تتم بحقّه عمليّة إعادة صوغ لمفهوم واضح وصريح: العنف والقوّة هو الحل للعودة والحياة. ومش هيك منتخلّص من آفات المجتمع والعنف. التخلّص من آفات المجتمع، ومن العنف بيجي من خلال التسامح ومحاربته، ومش من خلال التهجير والإبعاد. أنا بأول يوم قلت: يدنا ممدونة للسلام والصلح. وأضفت: "يا أبناء هذا البلد، ويا جماهير شعبنا الكرام، نهيب بكم فردًا فردًا بالوقوف للتصدّي لثقافة السلاح، والعنف والقتل أولًا. ومن ثم بقاؤكم إلى جانبنا حتى مرور هذه الأزمة لنقلع جذور العنف من مجتمعنا، نحن وأنتم". وأخذت قراري، بعد غياب 8 سنين عن البلد، أرجع عليها، عشان أكون في طليعة المحاربين عشانها، وعشان أكون أنا وأبناء بلدي، في صف محاربة العنف والسلاح والتخلّف. وشو الي عم يصير بعد 40 يوم ؟

بس عشان يكون واضح، أعزائي جاهات الصلح، أهل البلد، "الأوادم"، لا يقبلها حرّ أن تبقى العائلة في هذه الحال بينما تضيؤون فانوس الشهر الكريم سعداء تحت شعار "عبلين الحياة"، ولن يقبلها مؤمن وغير مؤمن، ولا أكتب إلّا من وجع، وجع على المستقبل والحاضر، فالماضي أصبح خلفنا، فلا تجعلوا من المستقبل أسوأ. اليوم، أنا بوضع، بقدر أشوف شو يعني خبر قتل شاب بوسائل الإعلام، الي بتنشر الخبر وما بتنشر أي من تبعاته، وسائل الإعلام الي اشتغلت فيها وبعرف كيف بتشتغل، وبعرف سياسة "المشاهدات". وشخصيًا، هاي المدوّنة بس فشّة خلق، لا فيها ولا عقلانيّة ولا تحليل، بس الأكيد: في تحليل جاي عالطريق عقلانيّ كفاية. وفي صراع جاي كبير مش صغير، مع كافة المؤسسات والهيئات الي اذا هيك شغلها فعليًا، فهمت ليش العنف في تزايد. ولمّا بدّي أعلن حربي عالعنف والقتل، مش رح ارحم حدا.